القلب وعلاقته بالعقل كما ورد في القرآن

السويداء صورة وخبر ـ مقتطفات من كتاب نور الإله من سلسلة نور التوحيد ـ الشيخ سعود منذر

إنّ القرآن يحتوى على 122 آية ذُكر فيهن كلمة القلب، وهنّ يتحدّثن عن جوانب كثيرة في النّفس البشريّة بحيث تشعرنا أحياناً أنّنا أمام صورة من صور العقل، أو أمام العقل ذاته، وأحياناً أخرى نشعر أنّنا أمام العاطفة والأحاسيس والمشاعر الوجدانيّة، وأحياناً ثالثة نجد أنفسنا أمام جانب يجمع بين الجانبين العقليّ والعاطفيّ ويزيد عليهما عمقاً وبعداً آخر.

إنّنا سنقف إذاً أمام النّص القرآني ونحاول أن نتدبّر متحرّرين من الآراء التي عرفها الكثيرون. سنقف أمام النّص وجها لوجه نحاول أن نستشفّ منه المعاني الحقيقيّة للفظ “القلب” وسوف نبدأ بالآية التالية التي تجمع بين العقل والقلب، وهي آية وردت في سورة الحج /46/ “أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ “.

أمامنا هنا عدّة أمور:

– دعوة إلى السّير في الأرض، و البحث عن الحقيقة، والتّأمّل في مظاهر الوجود.

– ولكنْ من الذي يقوم بالتأمّل، والدّرس والمعرفة؟ إنّه العقل الجزئيّ في الإنسان كما نعرف، أمَّا الآية أضافت القلب إلى العقل، وأشركته في عمليّة البحث والدّرس والتّأمّل “قلوب يعقلون بها”مع إضافة شيء يدلّ على الإصغاء إلى نداء باطنيّ رغم التّعبير عن ذلك بحاسّة ظاهرة وهي قوله “أو آذان يسمعون بها “.

فهل قُصد بلفظ القلب مسنداً إليه فعل العقل بأنّه هو العقل ذاته؟ إنّه في الظّاهر يبدو كذلك، ولكنّه في الحقيقة والواقع شيء أعمق من هذا وذاك. فلا القلب قُصد به العقل ذاته، ولا الأذن قصد بها الأذن ذاتها، والدّليل هو:

– “فإنّها لا تَعْمَى الأبصار ولكن تَعْمَى القلوب التي في الصّدور”. بحيث أسندت العمليّة” إلى هذا العضو الذي يوجد في الصّدر، إلى القلب.

 إذن هناك بصر وبصيرة، هناك رؤية عينيّة ورؤية قلبيّة، فقد يمرّ الإنسان ببصره على كثير من الآيات والدّلائل على القدرة الإلهيّة ولا يحسّ بها ولا يدرك حقيقتها لأنّ “بصيرته” مظلمة، لأنّ قلبه أعمى، وقد تنكشف الحقائق فيراها أمامه جليّة واضحة، يراها بقلبه، يراها ببصيرته التي في أعماق نفسه، فيدرك أبعادها ويفهم دقائقها فيعرف ما وراءها من حكمة.

لذلك كان للقرآن تفسيرٌ ظاهرٌ و باطنٌ وتفسيرٌ ثالثٌ وهو باطن الباطن:

  • فالتفسير الظّاهر لمن يُشغل العقل الجزئيّ في فهم المعنى. وهو لأهل الظّاهر (التنزيل) ومثال ذلك قول “الجنّة تحت أقدام الأمّهات” فالمعنى الظّاهر من القول هو المقصود إكرام ورعاية الأمّ التي تلد جسد الإنسان ودخول الجنّة مرتبط بذلك.
  • أما التفسير الباطن لمن يُشغل العقل الجزئيّ، والقلب في فهم المعنى، وهو لأهل الباطن (التّأويل) والمعنى الباطنيّ للقول السّابق “الجنّة تحت أقدام الأمّهات” المقصود به الأئمّة (أئمّة التّأويل).
  • أما تفسير باطن الباطن لمن يشغل العقل الجزئيّ والقلب بالوسيلة (العقل الكلّيّ) لأنّه هو صاحب العلم وهذا التّفسير لأهل التّوحيد (أهل البيان والحقيقة والبرهان) ومعنى باطن الباطن في القول السّابق”الجنّة تحت أقدام الأمّهات” هم الحدود الذين يُرْضِعُون التّوحيد للمستجيبين لدعوة التّوحيد التي هي الجنّة. 

فعلم التّوحيد مرتبط بالبصيرة والقلب، ولكنّ القلب هنا قلبٌ مبصر، قلبٌ مشرق ومضيء، قلبٌ يعقل ويدرك، قلبٌ تنكشفُ أمامه الحقائق كما يسلّط النّور على الأشياء فتتّضح وسط الظّلمة. إنّه عقل من ناحية، وإنّه وجدان من ناحية ثانية، أو أنّه تلك القوّة التي تقف وراء العقل ولا نستطيع تحديدها ماديّاً والتي نسمّيها “الإلهام” أحياناً ويعرفها الشّعراء والأدباء والملهمون والعباقرة، وكذلك يعرفها المؤمنون الذين رزقوا شفافيّة النّفس ورقّة الشّعور.

إنّها “الرؤية الإيمانيّة” التي تضيء القلب بنور الإيمان فيرى الوجود بعين البصيرة لا بعين البصر، ويدرك الحقيقة إدراكاً من الدّاخل لا من الخارج.

“فالحقيقة المستمدّة من العلم تختلف اختلافاً تاماً عن تلك المستمدة من الإيمان. فالأخيرة أكثر عمقاً ولا يمكن التشكيك فيها بالمجادلات، ولكن ممّا يدعو للغرابة أنّ هذه  الحقيقة ليست غريبة على العلم. إذ من الواضح أنّ الاكتشافات الكبيرة ليست نتاج العقل فقط. فإن العباقرة يملكون إلى جانب قوّتهم على الملاحظة والفهم صفات أخرى مثل البصيرة والخيال المبتدع، فعن طريق البصيرة يتعلّمون أشياءَ يجهلها الآخرون، ويدركون العلاقات بين الظّواهر شبه المنفصلة، كما يحسّون بطريقة لا شعورية بوجود الكنز غير المعروف”.            

                    “- الكسيس كاريل صفحة 145-“

“لا بدّ – إذاً – أن يشفّ القلب وترقّ الحواسّ لترتفع الحجب ويستطيع الإنسان أن يرى بعين البصيرة وليس بعينه البشريّة ويتجاوز سجن الواقع المحدود بالأسباب والمسبّبات ليطلّ على ما ورائه.

“كتاب لغز الموت ص 60  الدكتور مصطفى محمود”

إنّ لفظ البصيرة في القرآن ارتبط بمعنى الإحاطة بكوامن النّفس البشريّة لذلك ورد في سورة القيامة آية 14 ” بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ”.

واستخدم الله تعالى كلمة القلب في المسؤوليّة عن عمل الإنسان بقوله “لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَٰكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ۗ…..”            البقرة 225

ويقول أيضاً”..ۚ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَٰكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ۚ ….”.                     الأحزاب 5

 فالكسب والعَمْد لفظان يدلاّن على إرادة الفعل، والأوّل يرتبط بالنيّة ومحلّها القلب، والثّاني يدلّ على العزم والتّصميم والقصد، وهذا يفرّق بين الجبر والاختيار لرفع المسؤوليّة عمّن أخطأ دون إرادة ذلك الخطأ، وعمّن نسيَ في الوقت نفسه ، وهذا جانب ينطبق عليه جانب الجبر بينما الآيات تربط المسؤوليّة بالقصد والإرادة، وهذا ينطبق عليه جانب الاختيار. فالقلب المبصر هو المؤشّر الحقيقيّ للتّفرقة بين الخطأ والصّواب وبين الخير والشّرّ.

إذا تتبّعنا جانب المسؤوليّة في القرآن فإنّنا نجد أنّ “الإثم” يُسند إلى القلب وذلك في قوله تعالى: “….وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ ۚ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ۗ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ”                                  البقرة 283

فالكتمان هو إسرار الشّيء وإخفاؤه وهذا عمل من أعمال القلب، وهو يناط بإرادة الإنسان ونيّته وضميره، ولذلك كان كتمان الشّهادة وعدم أدائها إثماً وذنباً يُحاسب عليه الإنسان، لأنّ الله يعلم ما تُخفي الأنفس وما تَكتم” ، “يعلم السّرّ وأخفى” طه 7. وهذا التّعارض بين الإعلان والإسرار والتّناقض بين الظّاهر والباطن.

فالإنسان في حياته داخل المجتمع يجب أن يكون صادقاً في تعامله مع الآخرين عموماً لكنّ ما يخصّه شخصيّاً يجب عليه كتمانه على أن لا يضرّ هذا الكتمان بالآخرين.

إنّ القلب هو الذي يفتح أبوابه لسماع الحقّ أو يغلقها، وهو يُطبع عليه فلا يُصغي لنداء الوجدان، وجاء في القرآن آيات ورد فيها كلمات دلّت ذلك مثل الإقفال والأكنة والطبع والختم، وسدّ منافذ الهداية على القلب، وربط القرآن بين صمم الآذان وعماية الأبصار وإقفال القلوب، وكأنّ ذلك يحدث في وقت واحد ممّا يؤكّد الصّلة بين الحواس وبين القلب، فإذا رجعنا إلى مبحث العقل وجدنا الظاهرة نفسها، حيث يأتي الصّمم والبكم والعماية مع نفي صفة العقل، وهذا يؤكّد ارتباط العقل بالقلب، وارتباط الاثنين معاً بالحواس فإمّا هي مغلقة وإمّا هي مفتوحة على الحقّ والنّور والهداية.

ففي سورة البقرة الآية 6،7 تبيّن لنا كيف يرتبط الكفر بالختم على القلوب والأسماع والأبصار، فإنذار الكافر وعدم إنذاره سواء، لأنّ هذا الإنذار لا يجد الأدوات الحسّيّة الصالحة لأنّها تنقل إلى القلب صوت الحقّ.

 يقول سبحانه:

“إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ” (7)      

ولما كان القلب هو محل الإيمان والكفر، ومركز الهداية والضّلال، فإنّه يتعرّض للمواقف الكبيرة التي تظهر حقيقته، لأنّ الله يمتحن هذه القلوب ليقيم الحجّة على أصحابها،  فإذا بحثنا عن اليقين المستند إلى العقل وجدنا ذلك في حوار إبراهيم مع ربه: قال إبراهيم: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال الله: أو لم تؤمن؟ قال: بلى، ولكن ليطمئنّ قلبي؟

إنّ الأدلّة التي يطلبها إبراهيم عقليّة، ولكنّه استخدم تعبير “ليطمئنّ قلبي” فبيَّن أنّ الإيمان مكانه القلب، وأنّ اليقين محلّه الوجدان، لأنّ الطّمأنينة أمر نفسي يساعد العقل على الوصول باستنتاجاته المنطقيّة السليمة. إنّ إبراهيم ليس شاكّاً في قدرة الله ولكنّه يبحث عن المعرفة العقليّة لترتاح نفسه ويطمئنّ قلبه.    سورة البقرة 260

“وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ۖ قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً ۚ وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”.

تطلب المجموعة من دار الغطريف للنشر والترجمة ـ شرقي المحافظة 999047550 963+

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى