قصة: مثقف العناوين

السويداء صورة وخبر ـ مقتطفات من المجموعة القصصية كريما بيضاء للكاتب فراس المحيثاوي

الغرفة تسودها الفوضى, وكذلك أفكار (سمير) الجالس خلف طاولته الخشبيّة العتيقة, التي توضع عليها بالترتيب :

صورة حبيبته، و كتابان يحملان نفس العنوان (فن الرواية) ” أحدهما لميلان كونديرا، والآخر لكولن ولسون “, وبضعة معاجم، وزجاجة عرق ناقصة، و كأس مملوءة إلى أقلّ من منتصفها (عرقاً بالطبع)، وحاوية أقلام، وملزمة من الورق الأسمر.

القلم لا يفتأ يتحرّك بين أصابعه؛ كأنّ عدوى الفوضى سرت إليه.

قطعة أثاث خشبيّة عتيقة أخرى احتلّت جزءاً لا بأس به من الغرفة، المكتبة، التي تضمّ كتباً لم يمسّها سمير منذ اشتراها، رغم أنّ الشغف الذي تولّاه وهو ينتقيها، كان يوحي بأنه سيلتهم صفحاتها بنهَم.

((لعبة الكريّات الزجاجيّة، سنة موت ريكاردو ريس، كائن لا تحتمل خفّته، الحب في زمن الكوليرا، العطر، …….)).

عناوين منتخبة بعناية، دفع سمير ثمنها أشهراً من الجوع والشجار مع صاحب الغرفة.

على جدران الغرفة، عُلّقت صور لأدونيس، ومحمود درويش، وفيروز، وغيفارا.

سمير لا يزال جالساً خلف طاولته الخشبيّة العتيقة، تسود أفكاره الفوضى، والقلم لا يفتأ يتحرّك بين أصابعه.

عاد بذاكرته إلى الوراء، تذكّر كيف طرده أبوه من البيت، وكيف جاع وتشرّد طويلاً قبل أن يجد عملاً يقيهِ غوائل الحياة.

لقد قضى بضعَة أيّام متسكّعاً في الشوارع، متّخذاً من مقاعد الحدائق العامّة مكاناً لنومه، إلى أن التقى (نيرودا) وأقام عنده فترة لا بأس بها.

نيرودا، الذي غادر بيت أهله في القرية بمحض إرادته، وجاء ليستقرّ في دمشق مقتفياً آثار أصدقائه المفضّلين ((سارتر، وكامو، وسيمون دي بوفوار، وجان جينيه))، شارك صديقه الجديد معظم تفاصيل حياته: “عمله في النادي الليلي، ومشروعهُ في الكتابة، وتمرّده على السلفيّات، و أخبره عن الأفكار النظريّة التي وضعها وأطلق عليها: (الوجوديّة الجديدة)!”

كان شخصاً حاسماً؛ يحوّل القول إلى فعل بِلا أدنى تردّد، لذا؛ نصّب نفسه داعية إلى مذهبه الجديد، و جمع حوله عدداً من المريدين، وأسّس تجمّعاً ثقافيّاً، دعا سمير إليه، بعد أن توطّدت علاقتهما.

أعجب سمير بطريقة حياة (المحفل الوجودي) كما دعا أعضاء التجمّع أنفسهم؛ تيمّناً بـ (المحفل الماسوني) وخلبت لبّه أفكارهم التي تناسب نزعته الاستقلاليّة.

لكنّ الأمر بدأ يتغيّر عندما لاحظ شذوذاً في بعض تصرّفاتهم.

لم يكن ارتباطه بهم ليستمرّ طويلاً؛ إذ كيف يمكن لمن رفض هيمنة والده أن يقبل هيمنة خليطٍ عجيب من أفراد لا تجمعه بهم سوى صلة استلاب وقتي، سريع الزوال؟!!

فقط نيرودا وليّ نعمته ـ إذا جاز التعبير ـ لم يقطع خيط التواصل معه ليس بسبب شراكتهما في السكن فحسب؛ بل لأنّه رأى في تمرّد سمير على التجمّع فرصة له ليوازن بين موقفين:

ـ الأول: يمثّله أصدقاء التجمّع الذين فقد سيطرته عليهم بعد أن صاروا يجيّرون أفكار التجمّع لمصالحهم الشخصيّة.

ـ والثاني: يمثّله سمير الذي يرى أنّ العلّة تكمن في جوهر الفكرة ذاته.

ورغم أنّ سمير لم يكن مؤهّلاً لينتصر في أيّ من الحوارات التي تنشب بينه وبين صديقه، إلّا أنّ نيرودا لم يقنط من أن يجد عنده جديداً يساعده على تطوير فكرته يوماً ما.

لكنّ الصديقين نسيا في غمرة نقاشاتهما الطويلة أنّ الحديث الخصب مهما طال أمده، وتنوّعت طرائقه، لابدّ أن ينضب ليحلّ محلّه الروتين القاتل والقاحل للتفاصيل اليوميّة المعاشة على وتيرة واحدة، وهكذا، تعدّدت النظرات المواربة، والتكلّف، وانتحال شتّى الأعذار لمغادرة أحدهما الغرفة فراراً بمساحته من طفيليّة الآخر, إلى أن أنهى نيرودا الأزمة ذات يوم حين طلب إلى صديقه أن يعود إلى أهله؛ وبهذه الطريقة أعطاه زمام البدار ليبحث عن سكن مستقل، و سرعان ما عثر على غرفة أثّثها بالقليل من وسائل المعيشة و الكثير من الكتب و صور الجدران والأقراص المدمجة “لزياد, و سميح, و مارسيل, و الشيخ إمام”.

الغرفة تسودها الفوضى، وكذلك أفكار (سمير) الجالس خلف طاولته الخشبيّة العتيقة.

هدأ القلم أخيراً، وانكبّ سمير على الورقة، و….. لم يكتب شيئاً.

حقوق النشر محفوظة يرجى عدم الاقتباس أو الاستخدام دون موافقة دار النشر الخطية

تطلب المجموعة من دار الغطريف للنشر والترجمة ـ شرقي المحافظة 999047550 963+

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى